في الدار في الصحافة
في الدار في الصحافة
في الدار في الصحافة
في الدار في الصحافة
أُوسكار رُويتر في رؤياه للبيت العراقي قبل عام 1909م
منتظر الحسني
وضع أُوسكار رُويتر كتابه (البيت العراقي في بغداد ومدن عراقية أُخرى) في زمن مبكر ليكون ركيزة أساسية في موضوع البيت في العراق ومرجعاً أوَّلاً في هذا الغرض، وإضافة نوعية للمكتبة العالمية، نستذكره ونقف عنده بعد أكثر من قرن احتفاء بهذا الجهد وتزامناً مع إصدار مجلة التراث الشعبي ملفاً خاصاً بالبيت العراقي.
جمع المؤلف مواد هذا الكتاب بنفسه حين كان في العراق، أقام في بغداد لمدة ثلاث سنوات، اتصل خلالها بأُسطوات البناء في مدن عراقية عدة، وقام بقياس الأبعاد وملاحظة التصميم ودراسة المواد المستعملة والأشكال القائمة عليها هياكل البيوت في ذلك الوقت، معتمداً التصوير والرسم والتخطيط بنفسه:
"يعود جزء من المواد أعددتها بنفسي ويعود جزء آخر إلى اتصالاتي مع معلمي البناء المحليين الذي قدموا إلي معارفهم وآراءهم حول البناء شفوياً وخطياً بتسليمي العديد من المخططات النموذجية، وأخص منهم بالذكر المعلّمين (الأسطوات) أمين وعبود من الحلة والمعلم الأسطا حجي عباس من كربلاء".
قدَّم المؤلف هذا الجهد المبكر في موضوعه لينال به شهادة الدكتوراه عام 1909م من الأكاديمية الملكية السكسونية في درسن/ألمانيا.
فرضية الكتاب
يصدر أُوسكار رُويتر في دراسته عن فرضية أنّ البيوت المدنية في العراق لم تنبثق عن البيوت الريفية أو تتطوَّر عنها بحسب اعتقاد سائد؛ فكانت فرضيته التي نفذ منها إلى الدراسة: "أنَّ البيت الفلاحي يتَّسم بطابع محافظ بشكل خاص، وعندما نجد تشابهاً في الشكل الأساسي بين البت الفلاحي والبيت المدني يمكننا افتراض أنَّ البيت الفلاحي ظلَّ محافظاً على شكله الأصلي".
في أغلب البلدان الإسلامية "لا توجد سوى بعض التقادير والأخبار المنفردة التي وضعها بعض المستكشفين أو الرحالة، الدراسات الموسعة والدقيقة معدومة في كل مكان تقريباً".
التوصيف والمقارنات الأفقية أكثر من العمودية المتصلة بتاريخ البيت وتطوره، وذلك لأن القطيعة التاريخية التي لم تصلنا أو تصل عصر المؤلف كانت تحول دون التقدم في هذا المضمار
لقد رصد الثابت والمتحول في قيم البناء الهندسية والمضافات الجمالية وبدد الاعتقاد بأنَّ البيت العراقي في المدينة هو تطور عن البيت الريفي، وهو اعتقاد شائع على الأقل في أوربا
منذ ذلك الوقت أدرك رويتر "لأنّ البيوت السكنية وخاصة في الشرق، تبنى بشكل أقل متانة وبالتالي معرضة للسقوط والاندثار شيئاً فشيئاً وتحل محلها طرز البناء الفرنجية المستوردة"
البيت الريفي
وقف المؤلف على بيت المالك في الريف الذي يتميز عن البيوت الأخرى في مبدأ نظامه على الرغم من اشتراكه بالهيكل الأساس للبيت الريفي بشكل عام؛ وهو اصطفاف الغرف والسور الجامع لها، لكن هذا البيت يتسم بوجود المضيف (غرفة الضيوف المنفردة والمستقلة الخاصة بالرجال)، وقادهُ الحديث عن المجمعات السكنية الزراعية التي تضم عادةً القرية كاملةً وتقيم فيها عائلات الفلاحين الذين يعملون في أراضي المالك، وتكون دار المالك نفسه (القصر أو الكونك) والاصطبلات ومخازن الغلال منفصلة عن بعضها لكنها محاطة بسور مشترك، وتأخذ دار المالك تلك موقعاً مميزاً عند البوابة الرئيسة للمجمع.
ويبدو أنَّ من سمات البيت الريفي أو البدائي بحسب نعت المؤلف أنّ نظام البيت والتشكيل العام فيه يقوم على رؤية مفادها الاصطفاف والترابط الضعيف بين مكوناته حول فناء واسع، وكأنَّ اتساع فناء البيت مَعلمٌ دال على سمة جوهرية في تشكُّل نظام البيت في الريف، فضلاً على اختفاء الأعمدة والدعائم منه، لكنها تغدو خصيصة يتسم بها البيت المدني، وقد بقي النمط الريفي، بعد رويتر، شائعاً في البناء إلى وقت قريب.
البيت في المدينة
أمَّا البيت المدني فيقوم في نواته على نظام (بيت الطارمة) الذي يتجه دائماً إلى التوسع العمودي بسبب ضيق المساحة، فضلاً عن الجمالية التي لم يذكرها المؤلف.
ملحظ: عدم ثبات غرف النوم وتغيرها بحسب تغير الطقس صيفاً وشتاءً
لقد انطوى الكتاب على قاموس مهم بمصطلحات البيت العراقي وما تشير إليه من مفاهيم وأشكال وعمارة ومواد مكونة للبيت فضلاً عن القيم الجمالية ومكملات البيت.
زوّدنا بعشرات الصور والتخطيطات والأشكال المجسمة والمفصلة لنظام البيت العراقي ومكوناته الأساسية والكمالية
المخطط العام للبيت
تناول المؤلف في هذا القسم من دراسته أشكال الغرف من حيث: (الكبَّة والأُرسي والشناشيل والطالار والليوان والإيوانجي والكبشكان)، والغرف الجانبية والمنتفعات المكونة للبيت، والطارمة بأشكالها المختلفة، موضحاً أثرها في تغير المخطط العام للبيت، والسرداب وهو قبو يقع تحت الفناء يُضاء عبر مناور علوية تلجأ إليه الأسرة من حر الصيف، بشكل تفصيلي واقفاً عن دقائق التصميم والبناء، وأشار المؤلف إلى بيوت اليهود في بغداد التي يحتوي السرداب فيها على بئر يطلق عليه: "بئر الطبيلة، تستخدم للوضوء وتنفيذ طقوس الاغتسال، ولذلك يجب أن يكون الوصول إلى ماء البئر ممكناً عبر درج"، ولم تعد هذه السراديب الحقيقية، في زمن تأليف الكتاب، تُبنى في بغداد، ولم تعد صالحة للاستعمال لأنها تُسبب الحُمَّى، وفي البصرة لا توجد السراديب بسبب المياه الجوفية، وفي كربلاء لا تستعمل السراديب للسكن وإنما كإصطبلات أحياناً، لكنَّ النجف يوجد فيها سراديب واسعة، هناك يوجد سراديب على عمق طابقين أو ثلاثة محفورة في الصخر ويصل عمقها 15 متراً
ثمَّ بسط المؤلف القول في السلامليك والحرم، وهو تقسيم شائع في بيوت بغداد لدى المسلمين فحسب؛ إذْ يقسم البيت عادةً إلى السلامليك أو الديوان خانة والحرم، ويرى المؤلف أنّ هذا التقسيم لايوجد إلّا في بيوت العائلات الموسرة، أما الطبقى الوسطى" فتكتفي بوصل غرفة أو غرفتين مع مدخل البيت بواسطة الأدراج والإيوانجات بحيث لاتزعج حركة الضيوف الحياة المنزلية".
وختم هذا القسم بالإشارة إلى نقاط عامة لهيكل البيت من حيث موقع البيت من جهة الشارع وواجهة الفناء من جهة الشمال وشكل قطعة الأرض وموقعها من الشارع، ومن أجل الحصول على مساحة سكنية أكبر في الطابق العلوي يتم البروز دائماً نحو الشارع؛ "في هذه الحالة نجد سلسلة كاملة من البيوت المتلاصقة التي برزت طوابقها العليا نحو الشارع كأسنان المنشار مما يعطي الصورة المطلة على الشارع طابعاً مميزاً".
تكوين الواجهات
يقع مركز ثقل التشكيل المعماري للبيت في واجهة الفناء الداخلي التي تنفتح الطارمة فيها على رواق بقوس واحد أو قوسين على مجموعة من الاعمدة مع حوامل أفقية؛ يكون الغرض منها إظهار التضاد بين السطوح الجدارية المغلقة لغرف الأجنحة وبين فتحات الصالات الواقعة بينها.
وتكون وواجهة الشارع في الأصل مجرد جدار أملس مصمت ومغلق لايتخلله شيء سوى الباب الخارجي الغني بالزخرفة والزينة، وهذا ما يلحظه رويتر في البيوت القديمة التي شاهدها في العراق آنذاك؛ لذلك تكون الواجهات المزينة هي تطور عن ذلك الأصل، وهو ما لحظهُ في واجهات البيوت الجديدة في كربلاء.
ولا يقطع المؤلف بإرجاع أشكال الواجهات إلى ماضي البلد؛ وذلك لغياب الحلقات المترابطة حول تاريخ البيت العراقي، لذلك تبدو المقارنة صعبة، وهنا يصل المؤلف إلى رأي على جانب من الأهمية إذْ يرى: أنَّ "الاعتقاد بأنَّ المخطط الأساسي للبيت السكني في بغداد كان في الماضي مشابهاً لما هو عليه اليوم قابل للتصديق إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ العرب كشعب ينحدر من أصول بدوية متنقلة ليس لهم متطلبات كبيرة بشأن البيت السكني وبالتالي يفترض أنَّه لم تحدث تطورات كبيرة أو تغييرات أساسية في شكل البيت"
الهندسة وأشكال البناء
ينطلق المؤلف في هذا القسم من الملامح العامة للهندسة المعمارية للبيت المتصلة بالأبواب والنوافذ والأروقة وعملية قصّ الزوايا الحادة أو تدويرها، ثمَّ الأعمدة والإفريز والسقوف مُعرّجاً على أشكال الأقواس وهندستها وتشكيل الحوامل والدعائم ومدّ القناطر.
ويلي ذلك حديث حول الأبواب وتشكيلها، والقبب والمقرنصات والمشبكات وزينة السطوح والكتابة الزخرفية المتعددة الألوان لينتهي عند مدقات الأبواب التي تُصنع على شكل رؤوس حيوانات؛ فثمَّة اعتقاد شعبي سائد مفادهُ أنَّ هذه الأشكال تحمي البيت من النظرة الشريرة، وللغرض نفسه؛ "تُعلَّق فوق الباب الخارجي رؤوس غزلان أو ماعز بري مزودة بعيون زجاجية زرقاء اللون، وتتبع هذه العادة لدى كافة الطوائف دون تفريق، في أحيان نادرة نجد مدقات أبواب برأس بطة أو وزة، ومما يُلفت الانتباه أن الصانع يُعبّر بشكل صحيح عن طابع الحيوان على الرغم من التركيز على الجانب الفني".
المواد وتقنية بناء البيت
بدأ رويتر حديثه عن مواد البناء بذكر الجدران واستعمال الطين المجبول وغير المقولب في البيوت الفلاحية والمباني الزراعية وأسوار القرى، واستعمال الآجر الطيني المجفف تحت الشمس (اللِبِن)، ومن ثمَّ انتقل من هذا الموضوع إلى الجدران المبنية بالآجر المحروق، وقدَّم شرحاً مفصلاً لطريق شوي الآجر وإعداده للبناء ليصل إلى المواد الرابطة للآجر المشوي وهي العجينة الطينية المتكونة من التراب المجبول مع التبن، أو العجينة الجصية من الجبس؛ ولاسيما مع البناء الذي يحتاج إلى متانة أكبر كالقبب أو حوامل الجسور.
انتقل بعدها إلى الأساسات المكونة للبيت، فالجدران الظاهرة فوق سطح الأرض بالتفاصيل الدقيقة مع الوقوف على جدار (تيغا)، ثم عرَّج المؤلف على التطليعات المُعلقة وبناء القبب بأنواعها والأقواس والسقوف المُقببة والسلالم ومجاري التهوية وأنابيب الدخان والانشاءات الخشبية، ثمَّ نزل والآبار والمراحيض وعملية الاكساء والأرضية لينتهي المطاف عند النوافذ والمُشبكات والأبواب.
الخاتمة
تضمنت خاتمة الكتاب الموجزة إشارة إلى مقاومة البيت العراقي التأثيرات الأوربية الجديدة أكثر من أي شيء، ولم تزل أعمال البناء في العراق، في زمن المؤلف، تتبع بصورة عامة الطرق والأساليب المحلية القديمة، لكنَّ المتوقع أنَّ نظام البيت، القائم على تقنية بناء غير متينة عموماً، سيتطور ويبتعد عن مخطط بيت الطارمة الجامد شيئاً فشيئاً ويتهاوى عالم الأشكال بسرعة، دراسة مستفيضة مع مقارنات وتحليل عن البيت في تفاصيله الدقيقة.
قام بترجمة الكتاب ونقله إلى العربية محمود كبيبو، وصدر عن دار الورّاق في لندن 2005_2006م.
![]()
![]()