مقالة الناقد حمزة عليوي عن رواية (حي 14 تموز) وملاحظات شخصية

سهيل سامي نادر

عن روايتي (حي 14 تموز) كتب الصديق حمزة عليوي مقالاً نقدياً أشار فيه إلى أن سيرتي الذاتية موزعة على الشخصيات الخيالية للرواية. عنوان المقالة يفيد هذا المعنـى : («حي 14 تموز» رواية القصة الشخصية عن بلاد تفقد ذاكرتها)، ثم العنوان الشارح: (سهيل سامي نادر يستعمل وقائع سيرة ذاتية في بناء عالم متخيل).هذا الرابط - الواصف الذي لا أنفيه كلياً، يستدعي بعض التوضيح لإجلاء حقيقته ووزنه النوعي في الرواية.
إنَّ وجود تقديم للناشر، وحكاية ميّاسة، وهو الاسم الذي كنتُ أحرّر فيه الصفحة الخاصة بإنتاج القراء الأدبي في مجلة «الإذاعة والتلفزيون»، جعل من هذا الرابط – الواصف يتصف بالانكشاف. لا أعارض استنتاجات الناقد هنا، بل لا أنفي أنني استخدمت حوادثَ خاصة، لا أحب تسميتها (سيريّة)، نظراً لوظيفتها في تقديم عالم شباب الحيّ المرحين والبؤساء عندما كانوا يافعين يراسلون ميّاسة بحثاً عن التقدير الذاتي في الكتابة، وإلقاء الضوء على اهتماماتهم وألعابهم.
إزاء ذلك فإن حي 14 تموز الذي حدّدتُ موقعه في رصافة بغداد، هو الحي الذي عشت فيه أنا وعائلتي الأم، ثم عائلتي الشخصية. إنه عنصر دال يظهر في العنوان وتجتمع فيه شخصيات الرواية، بل هو دال منكشف بأكثر من صيغة، فهو مكان اجتماعي حيوي، واسم يحيل إلى حدث سياسي كبير، ثم هو مثال عن حياة الطبقة الوسطى المرتبطة بالدولة.
إنّ المكان هو العنصر الواقعي في الرواية، أي ما أعرّفه شخصياً، مورفوليجيته العامة وتركيبته الاجتماعية، وهما خاصيتان تحتضنان الشخصيات وبعض خيوط السرد.

بالرغم من ذلك ليس المكان مفتاح العمل، بل عتبة من عتباته. إنّ العنصر الأساسي لروايتي ليس المكان، بصرف النظر عن العنوان الذي يحيل إليه، بل هو زمن شديد الانطواء داخل السرد المجزّأ إلى موضوعات (ثيمات) حُدّدت بعناوين. إنه ليس زمناً خطياً، بل مٌجزأ إلى مشاهد وتفاصيل منفصلة. الحرب نفسها، وهي خبرة عامة تقاسمها العراقيون جميعا، لا تظهر ظهوراً سافراً، بل تظهر كهواجس وتكيفات وانتظارات، وما من مشاهد حربية، بل مصائر وحالات مترابطة داخل وضعية سياسية. إنه بألفاظ أخرى الزمن السياسي الذي يلضم مؤانسات الحي بمراثيه. إنه الدال الأكبر وموزّع المصائر. إن قيمة هذا العنصر يتجاوز، كما أرى، أي نفوذ للسيرة الذاتية على الرواية.

تتجلّى التقنية عندي بهذه الثيمات الموظّفة لتقديم الشخصيات ونزاعاتها مع زمنها السياسي المهيمن. إنها ثيمات محمّلة بزمن سياسي يصنع المصائر، ومن ثم يصنع القصص.

ثمة حوادث واقعية ثاوية في روايتي، لا أحسبها على سيرتي الذاتية، فليس كل شيء قريب مني، ألمسه ويلمسني، حدثاً كان أو فكرة، تُعد من السيرة. إنّ صاحب السيرة هو الذي يقرر الأمر ويقيّم معناه في حياته. إذن هذه الحوادث هي ملتقطات من الآثار التي تتجمّع ويعاد ترتيبها داخل اللعبة الروائية بعد أن تفك ارتباطاتها الظرفية، الطارئة أو التذكارية. إليكم فيما يأتي بعض الروابط الحقيقية:
1- حادث انكشاف كوني، أكتب باسم مياسة موجود في تقديم الناشر.
2- وارتباطاً به زيارة أصدقاء أخي سنان إلى مجلة الإذاعة والتلفزيون للقاء مياسة.
3 – انتحار صالح، صديق أخي سنان الذي عرفته عن كثب، ولقد انتحر حقاً تخلصاً من الحرب والتوتر، وقامت السلطات بالبحث في حياته الشخصية والعائلية.
4 –أخي سنان الذي غادر العالم باكراً (اسمه في الرواية أفنان نادر) هو الشخصية الحقيقية في الرواية التي لم أتلاعب بها وصوّرتها كما هي حقا. شاب مليء بالحيوية، كان هو وأصدقاؤه يؤلّفون فصاحات مجنونة بعنوان (الجندي البشوش في قاطع الشوش)، خليط من ألعاب لغة، وحكايات صغيرة مضحكة، وشتائم موجهة للدهر، أراد أخي أن يكتبها لكنه انشغل عنها في حياته القصيرة. الحقيقة أنَّ مادة روايتي خرجت من تلك الألعاب لمواجهة شراسة الدكتاتورية والحرب العبثية بالضحك الأسود.
5 – شخصية الراوي منير استوحيتها من شخص عرفته من أيام شبابي مصاب بعرج ولادي رأيته مرة يركل كتاب (هكذا تكلم زرادشت) ثم يدوسه بقدمه المصابة التي بدت كورم ملفوف بجلدة مربوطة بحزام وقضيب معدني. سمعته يشتم نيتشه ولم أسأله عن السبب، بل تبادلنا الضحكات على شرف هذا الفعل الـ(منير)!
6- تجربة منير في الجيش الشعبي تتماهى مع تجربتي الشخصية في هذا الجيش، إلاّ أنَّ الوقائع متخيلة.

إنّ ما يدعوه الناقد (حمزة عليوي) وقائع السيرة الذاتية أسمّيها أنا بالملتقطات. ففي عمل الآثار الابتدائي تُجمع ملتقطات من على سطح الموقع الأثري وتُفحص لكي تتّضح للمعنيين فكرة عامة عن طبيعة الموقع وزمنه وتوقعاتهم منه. وأعتقد أنّ كل روائي يفعل هذا بتجميع عناصر من تجاربه وتجارب الآخرين فضلاً عن معرفة بالأمكنة والحصول على مواد غير متجانسة يجري طحنها وتصفيتها، وهو ما يشير إليه الناقد بتعابير أخرى. إزاء ذلك أرى أنّ تأكيدات الناقد على السيرة الذاتية قد تعني توسع الهيمنة الذاتية للكاتب على الحدث الروائي والشخصيات، ما يجعل أعمال الفحص والنقد تميل تلقائياً إلى اكتشاف التماهيات الشخصية وتأكيدها، وردّ الأفكار والحوادث إلى عناصر السيرة، فضلاً عن قيام الكاتب بمضايقة شخصياته ملقناً إياها أفكاره.

هل حدث هذا؟ لا يشير الناقد إلى ذلك على نحو محدّد. لكنه ممكن الحدوث، إنما من الصعوبة التقاطه لضياعه في منظومة تعبيرية أوسع. بيد أن أكبر الممكنات تتجاوز سيرتي الشخصية، وتشكل لب العمل، وأعني بها مطحنة الزمن السياسي التي طحنت حياة شبّان حي 14 تموز، وحوّلت من اهتماماتهم وتعابيرهم واستعداداتهم لتلقي التطورات المتلاحقة المتوّجة بالحرب. هذه المطحنة تجربة كلية تقاسمها العراقيون جميعا.

حفّزتني مقالة الصديق حمزة عليوي لأضع رواية (حي 14 تموز) في سياق التجربة الشخصية (أفضّل هذا التعبير على السيرة). عندما أستعيد لحظة قراري بكتابتها أتذكّر صوت صدّام وهو يُطالب أن يكون لكل عراقي قصة. جاء هذا الطلب في سياق التعبئة. إنّ أول عشر صفحات كتبتها من الرواية، ولها حكاية وحدها، توّجت بالعنوان الآتي: (قبل أن يطالبنا صدام حسين بأن نصنع قصصاً أو نصبح قصصاً!). عشر صفحات سجالية أضمرت ما قبل دعوة التعبئة وما بعدها. إنّ السجال فيما إذا كان العراقي يصلح بطلاً روائياً أو لا يصلح، وأنّ الراوي منير لا يصلح للرواية بل لكتابة التاريخ، هو نقاش مخبول، ولعبة تتراجع فيها الضحكات على أصوات المدافع، حيث تولد القصص على مدار الساعة لتقتل.

تلك فكرة بُني عليها الهزل، كما انبنت عليها المفارقات والمآسي. أن نصنع قصصاً أو نصبح قصصا فكرة هائلة مسجّلة باسم الرئيس القائد ولا أحد ينازعه فيها. إنّ نقاش الفتيان بشأن ما يصلح ولا يصلح المعبأ بتهريج يتصادى مع التهريج السياسي العام، يرسم خطوط المفارقة التراجيدية التي تقول إنّ الجميع يصلحون للقصص في سياق الخطاب التعبوي، والجميع مشاريع للاستشهاد– والجملة الأخيرة تعدّ خطاباً مركزياً في تلك الأيام.

إنّ تلك الثيمة – العنوان، هي لبنة أولى دُعمت في ما بعد بالرجوع إلى سنوات الصبا وميّاسة والنقاش بشأن نصب الحرية، ثم التقدم إلى لحظة الحرب حيث فالح وصالح يتحولان إلى قصة من قصص الحرب وهما المعاندان الشرسان للقصص.

إنّ أسوأ ما حصل لي في كتابة الرواية أنني كتبت هذه الصفحات العشر بطريقة هيروغليفية لتضييع اسم صدام، ثم أهملتها. كنت أخوض حربي الخاصة بعد أن قدّمت لدائرة الشؤون الثقافية روايتي الأولى (التل) التي ظهرت قبل شهر من الاحتلال. بعد الاحتلال عدت إليها لأملأ فراغاتها وأطوّر لغتها، ثم أهملتها، ثم عدت إليها، وأهملتها. كنت مشغولاً بالكتابة السياسية وجمع كتاباتي النقدية في الفن التشكيلي. عندما غادرت العراق كانت الصفحات العشر تلدغني كلما أواجهها، إلاّ أنني كنت أكثر انشغالاً بتحليل ظواهر نظام 2003 الغريب والفوضوي.

ظلّت روايتي معلقة. اتخذت قراراً بتغيير خططي، وهو أن يكون محور الرواية انتحار صالح وأعمال التحقيق، وبدأت بالفعل في هذا التحويل، فوجدتني أكتب عن محقق رئاسي أحمق يسرف في خدمة رئيسه مع كمية هائلة من النذالة والجنون. ليس هذا ما أردت. أردت شيئا من الضحك الشعبي الصحي غير المرصود من السلطات يعبّر عن الاحتجاج والمقاومة. كتابة ضد كتابة. دسيسة ضد دسيسة. إنقاذ روحي، وإلقاء الضوء على أرواح مئات الآلاف من الشباب الذين قتلوا وأسروا وشردوا واختفت آثارهم، وإيقاف أعمال إهالة التراب على الحقائق التي واصلها نظام الطوائف الفاسد.

بعد وفاة أخي سنان شعرت بأن الانتهاء من الرواية هو بمثابة إحياء لذكراه، وذكرى ابني الحبيب ياسر الذي غادر بعده وكان قد خدم العسكرية وجعل الجنود والعرفاء يضحكون من قصصه المختلقة.

أنهيت القسم الأول من الرواية (المؤانسات) ثم أهملتها. عدت إليها في منتصف 2022 ، وأنهيت القسم الثاني (المراثي) بفورة استغرقت 50 يوماً. ثم عدت إليها لأضع تقديماً باسم الناشر، محيلا مسؤولية الكتابة إلى شخصية منير.

لم فعلت هذا؟
لأني -أولاً- أردت العبور إلى زمن الاحتلال الأميركي حيث تتضخم آثار الماضي وسكان الحي يتحولون إلى مهاجرين ومنافقين ومنتفعين وصابرين، وتتلف آثار الطبقة الوسطى الظاهرة في مساحات الدور وهندستها وحدائقها. هكذا تتحول المأساة إلى مهزلة.

وثانياً لوضوح دور الراوي منير وطريقته الذاتية التي تكشفت أثناء الكتابة. كان صاحب العاهة هذا مخلصاً لأصدقائه ولذكراهم، احتفظ بتوازنه مماثلا بين الذاكرة والكتابة والحقيقة. إنه غاضب ولا يريد أن يخسر غضبه أو يبدّده تحت أي ذريعة فنية أسلوبية. بسبب الغضب، والحقد أيضا، كما صرّح، نجح بإصابة هدف الرماية في معسكر النهروان ثماني مرات من عشر. كان يطلق النار على عاهته وحظوظه وأعداء لا يسمّيهم لكن بالإمكان أن نتعرّف عليهم في سياق الحياة السياسية العراقية. الغضب والحقد إذن. هذا هو فيضان الحرب المتحول إلى كتابة، ثم كتابة ضد كتابة!

الحقيقة أنّ شخصية منير مجموع أشخاص عرفتهم ولم أعرفهم مثّلوا عندي، مثلما منير نفسه، شاهداً غاضباً منحازاً. كنتُ كتبت نصف الرواية بأسلوب الراوي المستقل، لكن شخصية منير قاومت هذا، بل وعرقلت خططي في أن أكون أكثر موضوعية. لست أدري كيف أفسّر هذا. كيف حدث أنّ خشيتي من اشتباك الراوي بشخصي، بالرغم من أنّ العناصر الخيالية في الرواية هي المرجّحة، تحوّلت إلى تعاطف مع شخصية منير التي أجبرتني على أن أعيد النظر بأسلوب الراوي المستقل، مسلّماً الزمام لها كراوٍ وحيد ومشارك!

في وداع هذه الملاحظات، أقول إنَّ من قرأ روايتي (التل) جيداً سيكتشف أنني في تلك الرواية أيضاً عُنيت بمصائر الشباب. تناولت الرواية، عن طريق نصوص مكتوبة وجِدَتْ في موقعٍ للحفريات الأثرية، حياة نسّاخ شباب من القرن الرابع الهجري، حُبسوا في موقع مشبوه لكي ينسخوا كتباً مكرهين، فهم يتامى الحروب والانقطاع عن العوائل وتباعد الأمكنة، وكانوا مراقبين من قبل رجل يتظاهر بالورع الديني محروس بالسيّافين واللصوص وعساكر الأمراء الضالين.

إذن فقد تكرر الأمر مرتين، حاولت فيهما فك أسر الشبّان المنسيين. في الأولى كانوا منسيين من ألف عام. هل كنت أدافع عن شبابي في روايتين؟ لا أدري. ما أعرفه أنّ فمي مرّ من الدكتاتوريات المتعاقبة والاحتلال وزعرنة أولاد الطوائف المتنمرين. لقد مرّ كل شيء بسرعة، وفمي الذي اعتاد المرارة اعتاد أن يمنع شتائم وصراخ أضعف الإيمان.

بسبب الزمن الغبي السارق أتساءل : وهل كنتُ شابّاً في يوم ما؟!

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068


logo white