ترجمة : هدى حمودة
ربيعَ عام 1914، يَرسُو بول كلي بميناء تونس، رفقة August Macke وLouis Moilliet. إنّها صدمة الألوان والضّوء. في تلك اللّيلة يكتب لزوجته: «لقد تَجلّيتُ!.» هذا الألماني-السويسري الذي لم يتوقف عن تَتبّعِ شَغفهِ بين الأدب، الموسيقى والرّسم، تَحرر من الدّاخل. مَسكونًا بالبحث عن الأشكال، الأصوات والألوان، لا يكفُّ عن السفرِ. وقبل أن يصلَ تونس، كان قد لَفَّ أوربا، مِن الشّمال إلى الجنوب ومن الشّرق إلى الغرب، عدّة مرَّاتٍ. لمّا وصول تونس، اندهشَ، كمذهولٍ، ولم يشأ الرَّحيل. باختصار، لقد تَجلّى. هنا، يولدَ أَخيراً شغفه بالرّسم. ليُبقِي الموسيقى لزوجته التي تُعطي دروسا في الكمان لتُعيل البيت. وطوال فترة إقامته التُّونسية، لن ينقطع مطلقا عن الكتابة لها برسالة – وأحيانا - رسالتين في اليوم. هو في الحقيقة، يُحاورُ ذاتهُ عَبرَ البَريد المُتبادَل.
بعد جولة طويلة في «مْدينَة» تونس، يكتب لها: «لقد أذهَلتنِي عِمارةُ الحيّ العربي. يبقى أن أعثر على تَوليفة بين هذه العِمارَة الخَلابة وهندسة اللّوحة.» ..
كلـي في حالة جنون، مُتملمِلٌ. يتوقُ لرؤية كل شيء. وعلى طول الطريق، يخطُّ رسوماتٍ في فَضاء المدينة ولا يتوقف عن الاكتشاف والتّكشف: «اليوم، سيروكو عاتية، السَّماء ملبّدة، ظلال الرّهافَة الأكثر حَساسية. لا شيء هنا من خشونة أوربا المؤلمة. قليل من هواء الصحراء. والصّدى بداخلي يتعمّق ويُلحّ. أنا أُبعَثُ.»
يكتشف كلِي حقّا، مجرّة مليئة بالرّموز إلا أنّها، تَفرّ منه بالكامل. وهذا ما يميّزهُ عن الرّسامين الأوربييـن الآخرين المَفتونين بشمال أفريقيا؛ والذين - في الغالب - لم يفعلوا شيئا غير تأكيد النّظرة الكولونيالية للفن، بسخفٍ. في حالة بول كلي، لا! لا تفاهة، لا فولكلور. ولا غَرائبية. ولا تقسيما تعسّفيا لعالمٍ يدهشه، يحرّكه، لكنه يدرك بأنه لم يتمكّن بعدُ من فَهمه، وتقبُّله، كما هو. شيءٌ منَ النَّعيم ملون بالرّموز.
منذ الآن، سيكتشف بول كلي رُموز هذه «التونس» الغريبة التي خَلبته. سيواجه هذا التفتيش وهذا التّعقب مباشرة، أيْ باعتبارهما لعبة أشكال لا تنعزل مطلقا عنْ تَركيبة إثنية أوربا الوسطية. ربما لأن كلي ألماني - سويسري ولا يملك الّلمحة الاستعمارية التي تُشوِّه، عند الفرنسيين مثلا، أيُّ مُحاولةٍ لاستيعاب رؤية ما للعالم، سمة جغرافية ما للواقع وجوهرٌ غامضٌ ما، سَابقِ الوُجودِ بين الكائنات والأشياء.ذاتَ مساء بينما هو جالس على شرفة بسيدي بوسعيد، يرى كلي القمر يطلعُ. يرغبُ بِرسمه. فيفشل فشلا ذريعا.
في الحَال، يكتب على جريدته: «نعم، أفشل أمام هذا القمر التونسي، لكني الآن أعرف طريق العُبور من عَجزِي إلى الطبيعة. لقد طُبعَ هذا الإخفاق وهذه اللّيلة بعمقٍ داخلي إلى الأبد.».
لكن بول كلي لم يفقد الشّمال، بفقده القمر. فهو يحفظ عن البلد شيئا ما. وإن كان حسّاسا للمدينة وللحياة العربية، فلأنه فهم مبكّرا محنة الاحتلال التي يعيشها هذا البلد: «تونس أولا مدينة عربية. ثمّ إيطالية وأخيرا فرنسية، لكن الفرنسيين يتصرفون بتعالي. لذا يُفوّتُونَ حقيقة مدهشة». يفلت بول كلي حقًّا من النَّظرة الكلونيالية لهذا البلد الذي خالطه. ولا يسعى لتبرير وجوده. ولا لامتلاَك شيء. على العكس، فهو يستسلم للغواية والسحر. «هو نظرة» كما يقول Jean Duvignaud عن شغفه التونسي هذا. وحين اكتشف الحمامات. «فهمت باكتشافي بلدة الصيادين الصغيرة هذه، بأنَّ الفن لا يصبحُ المَرئيَ بل يجعلهُ مرئيًّا». يكتب في كراساته.
العلاقة التي تنشأ بين تصوّر هذا الكون وميوعَة عالم مَحفوفٍ بالمخاطرِ، مُراوغ ومُتقلّب، تُفرحُ الرَّسام .إنّها البهجة، يرسم ليضيع النوم. اللّوحات تَتراكمُ: شارع بتونس، ساحة القيروان، حديقة الجنوب، الحمامات ومساجدها، الشّدوُ العربي...
أثناء الرَّسم، يكتب ويحرّر كل مساء جريدته ورسالة لزوجته. في عام 1915، بعد عام من إقامته بتونس، يكتب لعائلته: «تونس بلد الرّموز المتحرّكة، تسافر، في انتقالٍ أبدي، وتتبدّل. هذه الرموز ليست مبعثرة عشوائيا. فالتناثر من يَرشّها على الأجساد مع الوشم والقماش، وبأشكال مِعمارية مع المساجد، المنازل والحدائق العربية، على المخطوطات والجدران المُجيَّـرة والمغروزَة بالحصى؛ كل هذا يُشكل لغة حقيقية، أو بالأحرى، الكثير من اللغات المتشابكة التي تشكّل نسيجا إلهيا لسيمفونية عربية، حيث لطيور الكناري دور قائد أوركسترا لا تنقطع». هنا شعر خَالص!. جعلت تونس من هذا الألماني - السويسري بوجه بارد ورتيبٍ، غنائيّا أكثرَ، بمعنى بسيط وطفولي!.إذ يَستشعر كلي، هذه اللغة المعقّدة، الحِسيّة والمقدسة!. ومِمَّا أدهشه، نَقش أبواب جامع القيروان الكبير.
لاحقا عام 1932 سوف ينجز منحوتات بأشكال ممكنة لكنها منفلتة. فهو حسّاس للانفلات، ولاستعجال نظرة معبّئة بمعنـى خَفي، أم لا.
يتحدث كلي في جريدته عن « تَجلياتِي الرُّوحية في رحلة تونس هذه.» فكلُّ هذه اللَّوحات التونسية سَتدله على : الرائحة، اللّمس، الإيماءة والأصوات. «كل هذا يساهم في شرح تشابك مُصور مَحبوكٍ، لا يكون موضوعه مثيرًا أو غرائبيًا، مطلقا. لكنه دائما فلسفي، روحي، مُتشابكٌ وخفيٍّ.» يكتب لاحقا Jean Duvignaud في كتاب صدر بتونس.هذا لأنه استبعد أيَّ فكرة عن الفولكلور وأعاد توزيع العناصر المصورة، المتحلّلة أو المبعثرة، هذه العناصر ستشكّل مدينة عربية، ميناء الحمامات، جامع القيروان... وسيُعيد بول كلي بعثَ الحداثة الغربية من خلال تصوراته عن العالم العربي وانغماسه في هذا الكونِ التُّونسي الذي سيصير بالنسبة لكل أوربا المذهولة، كونيةً حقيقية. طريقة جديدة لرؤية الآخر وبالتالي مراجعة ذاتها وتقييمها.
سنوات قبل وفاته، بعد رحلة تونس، وقد وصلً قمة الشُّهرة العالمية، سيقول بول كلي متحدثا عن هذا البلد الذي خلقه بالكاملِ، كرسام عبقري: «تونس بلدٌ يُشبهني.»
رشيد بوجدرة
أن ترسم الشرق
Rachid Boudjedra
Peindre L›orient
Editions ZULMA