علي سعدون
لم ألتقِ الراحل أحمد خلف إلّا لماما، مرّات قليلة جمعتنا في أحاديث طويلة، هي مناسبات عظيمة عندي في بغداد والبصرة والعماره، أحاديثه غنية بالمعرفة ومزدانة بذكرياته عمّا حصل ويحصل في الثقافة العراقية، فهو ذاكرة خصبة لكل ما مرَّ بأجيال الثقافة العراقية منذ ستينيات القرن الماضي، حتى يكاد يكون واحدا من رواد القصة العراقية.. وهو من رعيلها الأول بعد جوقة الرواد الذين لا يتعدى عددهم عدد أصابع اليد الواحدة.... وفي ضوء ذلك، هو صديقي مثلما هو صديق العشرات والمئات من المثقفين العراقيين في داخل العراق وفي المهجر .
لم أجد من يختلف معي في أهمية حضور أحمد خلف كتجربة كبيرة في السرد العراقي، مثلما يُعد حضوره في الوسط الثقافي لامعا كلمعان روحه وضميره في الكتابة والتحرير والعمل المهني. نعم هو أحمد خلف الذي نُجمع كلنا على محبته وعلى اخلاصه لمشروعه الشخصي الذي تفرّغ له زاهدا بمباهج الحياة كلها. القراءة والكتابة تأخذ من حياة الكاتب ما يساوي المتن، وتترك ما يتبقى من الحياة هامشا ضئيلا !!
أقول إنَّ اللقاء بخلف كان يترك عندي انطباعا لا يتكرر كثيرا مع الآخرين الذين قد حازوا على الشهرة الأدبية بحكم علاقات اجتماعية أو وجود كثيف في (الشارع الثقافي)، على العكس تماما من أحمد خلف وهو يتقدم بمشروعه الشخصي الذي وصل إلينا – نحن ابناء الهامش البعيد - قبل عقود من اللقاء به. وهو الوصول الحقيقي لأي كاتبٍ رصين تنفتح معه آفاق التواصل المعرفي دون أن تفكّر الناس بلقائه أبدا مثلما هي علاقتنا بالكبار دائما.
بعد لقائنا الأول وصلتني معظم أعماله اهداءً بخط يده .. بتواضع الكبار وحرصهم على التواصل، ما يؤكد نبله وإصراره على أن يكون في صدارة المواظبين على الحضور، غير عابئ بتقدّم العمر وتراكم التجربة وعلوّها وسطوعها.. أقول إنَّ أحمد خلف بعد أن اكتسب صفة المشروع الثقافي والأدبي يسطع بغيابه وحضوره بقوة في متن الثقافة العراقية.. الغياب عند أحمد خلف يتلاشى بكثافة الحضور، حضوره الشخصي الذي ينبثق كلّما تحدثنا عن السرد العراقي بنماذجه المشرقة.. فسلامٌ عليه يوم خطَّ حرفه الأول، ويوم لوّح بقصصهِ في عالمٍ شاسعٍ تعصفُ به الأهوال وتأخذه عنوة إلى الحروب والموت والاستلاب والوجع وقد أرَّخ لها أحمد خلف كثيرا..