طلال سليم آل جعفر/ الانبار – حديثة
تمهيد:
حاولت في هذا البحث المتواضع سبر تاريخ (الهوسة) والتعرف على أصولها من خلال المهتمين بهذا النمط من الشعر الشعبي، فدرست في القسم الأول منه وبإيجاز الهوسة في العراق مستعينا بنماذج من الهوسات العراقية التي شاعت في مناطق الفرات الأوسط وجنوب العراق بشكل خاص كون المنطقتين شكلتا الحاضنتين الأصيلتين لهذا اللون الشعري، ثم عرّجت في القسم الثاني منه إلى (الهوسة في حديثة) مسلطا الضوء على شعرائها، ولم أجد في هذه المدينة من يحفظ (هوساتهم) على الرغم من وجود أكثر من عشرة شعراء مشهورين في هذا المجال، حصلت لبعضهم على أنموذج واحد أو أثنين احتفظت بها ذاكرتي نقلا عن رواة عاصروا الشعراء، وتمثلت بما وجدته من نصوص لهم على قلتها بغيتي من ذلك التعريف بنمط مهم من أنماط أدبنا الشعبي (العامي).
القسم الأول: (الهوسة) نظرة عامة.
الهوسة: كلمة مشتقة من الهوس، ومنها المهووس، أي المصاب بالهوس، والمهوّس: منشد وشاعر الهوسة، هذا الرجز الشعبي المتأجج المشتعل الذي يحوّل صاحبه أو منشده الى رجل مهووس يلقي بنفسه في التهلكة ولا يبالي، ما هو؟ من أين أتى؟ من أول ألقائلين به؟ ومن أوجده، أسئلة تتزاحم في الرأس حين التفكير بها أو محاولة الكتابة عنها.
أين نشأ؟ في جنوب العراق أم في الفرات ألاوسط؟
وهل (الهوسة( شعر تحريضي أم هي ناتج فعل ورد لفعل؟
هل هي من أنواع الشعر الخاص بالقتال وحسب، أم هي لون شعري يتسع للغزل والوصف والمديح والهجاء كبقية أغراض الشعر؟
قلّبت الكثير من المصادر التي تتحدث في هذا الموضوع - على قلتها وتابعت ما كتب فيها وعنها، وسألت (المهوّسين) ومن لهم باع وشغف في هذا النوع من الشعر ولم أجد في كل ما تابعت وقرأت وتصفحت إلا نماذج ونصوص مختلفة للهوسة، لم يسعفني أحد بشيء عنها إذ لا أحد يعرف عنها شيئا .وكل مصادرها لا تذكر منها إلا نماذج ونصوص لها كـ(شوّاي الله ويمشي بگاعه( ) (فن الخالجهم يحماهم)( )، وفي التحدي (فجّارك الله وغضينا)( ) و(هز لندن ضاري وبـﭼاها)( )، وفي الرثاء (عزّل سوگ المطلوب النه)( )، و(دزوه يبلعنه وغص بينه)( )، وفي الفخر (يرﭼيها كلما تتمايل)( )، و(يا ابن الحر ممشاك براضه)( )، وفي المدح (يا زيها تجر تا نگضيها)( )، و(حل فرض الخامس گوموله)( )، وفي استنهاض الهمم ونماذج أخرى كثيرة وفي أبواب مختلفة عدها المرحوم الأستاذ علي الخاقاني) أحد أطوار الأبوذية) وهي: (اللامي، الصبّي، عنيسي، مشموم، الهوسة، الحياوي) وقال عنها ما نصه: "وهذا النوع يستعمل في الفرح والترح والحروب مثل:
عسى عمري گضيته وياك ولّيت
وعگب وصلك عليّ جفاك ولّيت
ريت بيوم مــد الضـــعن ولّ
(الموت ولا صدك ساعه)( )
ثم عاد بعد ذلك وفي مكان آخر من المصدر نفسه فأعتبرها (أحد أصناف المربع) ولم يمثل على ذلك ولم يزد سوى أنه أضاف اليها في تصنيفه الجديد (الموشح، الميمر، كلمه ونص، التجليبه)( ). وألوان أخرى من الشعر الشعبي (العامي) المغنّى. والمربع كما هو معروف لون من ألوان الغناء البغدادي حصراً، إذ هو بغدادي المنشأ والانتشار والأداء عكس (الأبوذية) مثلاً الجنوبية المنشأ وإن انتشرت في عموم مناطق العراق فيما بعد. ولا أدري كيف اعتبرها الخاقاني وهي الجنوبية من أصناف المربع البغدادي الذي حافظ على بغداديته إلى هذا اليوم. أما الأستاذ خليل رشيد فيعتبر الهوسة امتداداً للرجز الذي كان فرسان العرب يرتجزون منه (البيت والبيتين يثيرون فيها الهمم والنخوة والعزيمة في المعارك خاصة لما للشعر من تأثير على الحواس) قبل مباشرتهم الصولة. و(تطور الرجز بمرور الزمن حتى صار على ما عليه الآن فيما نسميه بـالهوسة)( )، ويرى الأستاذ هادي غضب أن الهوسة (لحن حماسي وهدير يسيل سيلاً من الأفواه المجتمعة بعد أن يضعها- المهوال- بين هذه الأفواه)( )، بينما يعود الأستاذ علي الخاقاني ليقول عنها في مكان آخر – أي الهوسة – أو العگيلية كما تسمى عند البعض (بحر قائم بذاته يقابله بحر الخبب في العروض وهو على وزن- فعلن فعلن فعلن فعلن كـ"إنا أعطيناك الكوثر")( )، وهي مأخوذة من الهوس لأن المتلبس بها تلاحظ عليه هذه الصفة حتى أنه ليكاد يخرج من شعوره، وقد اختلف شعراء الهوسة في طرق نظمها وترتيبها فمنهم من ينظم ثلاثة أشطر يلقيها الشاعر بحماس ظاهر وصوت مرتفع وأداء متميز ترافقه إشارات خاصة باليدين أو بشيء ما يحمله بيده كالسلاح لينهيها بلفظة (ها ها ها) وهي لشد الانتباه إليه قبل أن يلقي هوسته المسماة (الربطة) أو (الربّاط) وفيه يختزل كل ما يريد أن يقوله فيجيء مركزاً بليغاً يحمل الكثير من المعاني في الباب الذي خصه بـ (هوسته). ومن أمثلة ذلك ما ارتجله (مشير مزهر الفرعون)( ) سنة 1935م حين وصل إلى علمه إن الوزارة العراقية شكلت برئاسة (علي جودت الايوبي)( ) لم يكن هذا ممن يرضى عنه الشاعر أو يناصره، فما كان منه إلا أن جمع من كان حاضرا من أفراد شرطة أبو صخير( ) مع الحضور الآخرين من أبناء المدينة ونادى فيهم ملوحاً بمسدسه بعد أن أطلق منه بضع رصاصات وهتف:
انـهضوا ويـاي يا شبان انهضوا ويـــاي
اتركوا النوم اكطعوا الزاد اكطعوا الماي
علــي جودت وزيــر عــراگنـا وي واي
(اتسنط يالله اشهل العيلة)( )
وكأنه هنا يعاتب الله جل وعلا ويطلب منه أن يرى إلى أين وصلت الأمور بالعراقيين حيث وزّر عليهم من لم يكن أهلا للوزارة. وليت مشير الفرعون حياً بيننا ليرى إلى أين آلت الأمور بنا وماذا سيقول بمن جاء بعد علي جودت الأيوبي في العهدين الملكي والجمهوري ثم الاحتلال وما تلاه ممن هم دونه بكثير.
نعود إلى الهوسة من جديد فنقول عنها كما أسلفنا أنها لون من ألوان الشعر الشعبي العامي العراقي يستخدم لإثارة الهمم وينتشر في وسط وجنوب العراق وهو على بحر الخبب بأربع تفعيلات كـ (طوبك أحسن لو مگواري)( )، وقد يتعدى الشاعر التفعيلة الخامسة في بعض أنواعها كـ (احنه المنطوية وسمها تجالع بي)( (، وقد ترد على لسان شاعر آخر بست تفعيلات كـ(شلون تسلم البيت المطرة ومطرة تصاوغ بيه)( )، وقد تكون مطلقة دون مقدمات مثل: (انت غطاي إشّه جريته)( ) أو مقيدة بثلاثة أشطر تسبقها كما في الأبوذية، وترمي الأشطر السابقة للرباط إلى إثارة الحماس وتهيئة الجمع لتلقي ما يقوله الشاعر (المهوال). وأراها نمط متفرد وليست كالأبوذية أو سواها كما قال المرحوم الخاقاني.
وتسمى الهوسة في مناطق غرب العراق وسوريا بـ (العگيلية ) نسبة إلى قبائل العگيلات) الذين يمتازون بإدائها، أما في الجنوب والفرات الأوسط فتسمى (حـچيمية) نسبة إلى قبائل (بني حچيم)( )، حيث يشكلون الحاضنة الأصلية لها. والهوسات كما أسلفنا ثلاثية التفعيلة وهي الأكثر انتشاراً، ومنها السداسية التفعيلة التي يتبادل أدائها أكثر من مهوال واحد ويقوم كل مهوال بأداء مقطعاً يردده الجمع خلفه بفريقين لمهوالين مثل: (هذا اليتم زغرك وأمك ماتت خوف عليك، شلون اتأمنه وتمشي وياه إسمع يامتوّج)( )، ومن شعراء الهوسة من يقدم لهوسته بما يزيد على الأربعة أشطر حتى تغدو كقصيدة تسبق (الرباط) وأرى أنها تضعف الهوسة كثيراً وتشتت معانيها أو تكررها فتفقدها الجو الحماسي الذي يجب أن يخيّم على الهوسة والمهوّس –المهوال –كقول الشاعر بيرم عبد القادر الحديثي في إحدى هوساته:
سل عن ماضينا يا ميجر تعرف أخباره
أهل سيف ورمح من سابج وأهل غاره
ضاري اللي ذبح (لـﭽمن) بسيفه وذره أو ذاره
هذولة احنه وعشايرنا وسيفنه طلّگ جفاره
نطلب دين ما ننسى كل غاره بألف غاره
إذا من ضاري اهتزت لندا وفغر فغّاره
)النوبه انهزها ونجليها)
ولو مثّلنا بنص آخر من ثلاثة أشطر للشاعر نفسه لرأينا أي ترهل أصاب الأول وأي برود مقابل التركيز والتوهج المستمر والحماسة الظاهرة في النص الثاني والذي يقول فيه:
إحنه أهل الرمح والسيف والغارات
من سابج النه ونمشي على الصعبات
نطلب بـ(العامرية) وإلنه بعد ثارات
(الصاع بصاعين نعيده )
من هنا أخلص إلى أن الهوسة إذا تعدت الثلاثة أشطر ضعفت لذلك نرى معظم الشعراء يتخلون عن الأشطر ويدخلون إلى (الرباط) مباشرة فنرى في ذلك جمالية تفوق الأولى في كثير من النصوص، حيث تمثل الصدمة المباشرة للمتلقي الذي يردد ما يقوله المهوال دون الإنتباه حتى إلى معنى ما يقال، وخذ مثلاً (يا موت اطحن وانا الهيلك) قالتها امرأة من الظوالم في ثورة العشرين حين رأت أولادها يتسابقون إلى الموت ومنهم من يسقط ومنهم من يواصل .. (وشها الغيبه يا هلال الدنيا ..) التي هتف بها المشيعون لجثمان الشيخ ضاري المحمود في 11 شباط 1928 م قاتل لـﭼمن في 12 آب 1920 م آبان اشتعال الثورة العراقية المشهورة بثورة العشرين وسوى ذلك الكثير من النماذج التي لا تعد خاصة في مناطق الفرات الأوسط وجنوب العراق الحاضنتين الأصليتين لهذا النوع من الشعر الشعبي كونهما مركزاً للانتفاضات الفلاحية الشعبية ضد المحتلين ومن والاهم( ) من المتسلطين من الأقطاعيين آنذاك. وهنا يبرز السؤال:
هل يعني هذا أن بالإمكان عد الهوسة محرضة على الثورات ومغذية لها؟ وهل هي فاعلة في هذا المجال؟ أم أنها مشاركة للحدث.. ليس إلا؟ وأرى أنها تؤدي دورها في الحالتين غير أنها أقرب إلى المشاركة وأنها نتاج فعل وليست فاعلة له بل هي رد للفعل وحسب. والدليل على ذلك أن أكثر النصوص التي بين أيدينا كانت ردة لفعل وقع إلا ما ندر وبشكل غير واضح كهوسة مشير الفرعون المار ذكرها والتي تدعو إلى الانتفاضة ضد علي جودت الأيوبي، ولو لم يستوزر الأيوبي لما كانت هذه الهوسة التي كان يجب أن تكون ضد أي من السياسيين آنذاك: كنوري السعيد مثلا أو صالح جبر وهما لم يكونا أكثر وطنية من الأيوبي إلا أن الذاتية التي تعامل بها الشاعر ولمواقف شخصية له على ما يبدو من الأيوبي دفعاه لإطلاق هوسته تلك. وغير هذا الكثير من الهوسات التي جاءت مشاركة للحدث سواءً في التحذير أو التحريض، في الأفراح أو الأتراح، أنها لم تخلق حدثا ولم تهيء له. بل هي مخلوقة بعد الحدث في أغلب الأحيان .كما أن للهوسات ميزات أخرى منها اقتصارها على الأحداث المحلية إذ لم نقرأ إلا نماذج جد قليلة تهتم بقضايا الأمة، ولم تنفعل الهوسة ولم تتفاعل مع أحداث كبيرة كالحدث الجزائري أو الفلسطيني عربيا في الأربعينيات من القرن الماضي وما تلا ذلك، إذا ما استثنينا هوسات عبد الرزاق محمد العبيد الحديثي التي كانت وطنية وقومية بامتياز وسترد أمثلة على ذلك فيما بعد، أما بقية الهوسات أو معظمها والغالب منها يدلل على أنها أدب محلي شعبي لا يتعدى حدود البلدة التي يقع فيها الحدث أو البلد في أحسن الأحوال، والهوسة أدب انفعالي سريع التأجج سريع الإنطفاء كذلك إذ ما أن ينتهي الحدث حتى ينسى النص وينسى الشاعر، والدليل أن الأدب الشعبي لم يسمي لنا شاعرا مختصا بالهوسة إلا ما ندر، وكل من يتحدث عن الهوسة يسمى قائلها (المهوّس) أو (المهوال) وكأن المتحدثين عن الهوسة لا يعدوها من أبواب الأدب ولا من يشير إليها أو يذكرها غير الباحث المتخصص عكس بقية أبواب الشعر التي يتغنى بها العامة، ويذكرون قائليها على مدى الأيام ومهما امتد الزمن، وقد شمل ذلك حتى الهوسات التي تطرق أبواب الغزل وهو الباب الشعري المتداول والمرغوب لدى الكثيرين ولا أحد يذكرها إلا على سبيل المثال كالنموذج المار ذكره: (عسى عمري گضيته وياك وليت) أو كنموذج آخر في الهجاء المقذع للحاج زاير الدويج( ) والذي يقول فيه ذاماً لرجل دخل معه في خصومة:
ظفر بي ابمسايسته ويدّه
وعلينا طـالـت اظفاره ويدّه
چلب هو وأبو مثله ويدّه
(من سابع جد ينبح بيهه)
أما عدا ذلك فلا تذكر هوسة في الغزل أو الهجاء لا للحاج زاير ولا لسواه وهذا لا يعني أن الشعراء لم يكتبوا في هذا الباب وإنما يعني أن الهوسة بشكل عام لا تصلح للتداول، وليست أهلا للبقاء لأنها شعر انفعالي يشتعل وينطفيء في لحظات معدودات، ولا يتبقى منها ما يذكر كما أسلفنا إلا لدى الباحثين في هذا المجال، وغير المقروئين إلا من النخبة غير أن هذا لا يمنعنا من الولوج في عالم هذا النمط من الأدب الشعبي العامي حتى وإن قل مناصروه ما دام محسوباً عليه، وما دامت الهوسة قد سجلت لها مواقف ومواطن من الغبن في الأدب الشعبي تجاوزها في الفخر والرثاء والتحريض انسابت على ألسن قائليها خارجة من قلوبهم، فدخلت قلوب سامعيها حينها، وظلت منها نماذج حية ترددها الألسن وتتمثل بها عند وقوع حدث مشابه للحدث الأصلي الذي أوجدها، فاشتقت منها أمثال شعبية أو أقوال سارت مسار المثل كالمتمثل في وصف رجل شجاع (صل ما يتواجه بالهيمه)( )، أو المثل الشعبي (صفه البيت لمطيره وطارت بي ألف طيره) المأخوذ من الهوسة الشهيرة (انطيت البيت لمطره ومطره تصاوغ بيه)( )، وقد تكون الهوسة هي من استفادت من المثل، وفي الحالتين هما معاصران لبعضهما، أيهما أسبق؟ لا أدري على وجه التحديد ولكنهما نتاج مرحلة واحدة، وكالهوسة التي جرت مجرى الأمثال: (وشجابك عالمفقاس يا گنبرة)( )، وسوى هذه الأمثلة وهي ليست قليلة.
القسم الثاني: الهوسة في حديثة الفرات
حديثة الفرات، مدينة ليست ككل المدن، أنها قرية كبيرة تلم الحديثيين بين ذراعي الفرات في حويجتها (الحديثة القديمة) وعلى كتفيه في جانبيها الجزري والشامي، ليس فيها غريب، وأن دخلها لغاية أو سبب ما رجل من غير أهلها لا يخرج منها إلا حديثياً أكثر من الحديثيين أنفسهم، يذكرها زائروها والمقيمون فيها لسبب أو آخر أكثر مما يذكرها أهلها أحيانا( ) لأنهم اعتادوها بكل ما فيها، وما فيها إلا الخير والحب والتداخل العائلي بين جميع سكانها، ليست بأرض عشائر وقبائل متميزة ليقال عنها: حديثة الفلانيين أو مدينة العلانيين لكنها بيوت للحديثيين .كلهم حديثيون :شمر، العبيد، البيات، المولى، السادة، وسواهم، تخلوا جميعهم عن نسبهم العشائري وانضموا إليها فغدوا حديثيون ببيوتات متقاربة متجاورة متصاهرة، بيت عبد الستار، بيت خليفة، بيت ملا عبدالله ، بيت هاشم، بيت جعفر، بيت قرقاش، بيت محمد الحسن، بيت خالد، بيت شويخ، أهل القلعة، أهل الخان، أهل الشيخ حديد، أهل بني داهر، أهل الحقلانية، أهل آلوس، هكذا، بيت وبيت وأهل وأهل، لا تجد نفساً عشائرياً أو قبلياً بين أي من هؤلاء أنهم (صبيان حادث) نخوتهم جميعاً وبدون استثناء. حتى (أهل السنجگ) من العشائر المحيطة بحديثة قبل بناء سد حديثة وضياع سنجقها من المعاضيد والجغايفة والمشاهده والبو حيّاة شرقاً وغرباً وسواهم، كانوا أهل سنجق، بل أن معظمهم كانوا يحملون أسماء قراهم فيقال مثلا أهل السوسة، أهل السواري، أهل صريافة...وهكذا. يمرون بحديثة ويقيمون في بيوت أهلها ويشاركون في أفراحها وأتراحها ويربطهم بها (أهل وبيت) وظلوا كذالك إلى أن (خربت الدنيا) مذ أثيرت في المرحلة السابقة للإحتلال النعرة القبلية عند العراقيين وروّج للأنساب والمشايخ فتحولت للأسف بيوت وأهل حديثة إلى شمر وعنزة ومولى وجنابيين وسادة حسنيين وسادة حسينيين وطائيين وهاشميين، وسوى ذلك من ألقاب نرجو زوالها مع نهاية النظام ليعود الحديثيون حديثيين كما كانوا بكل بيوتاتهم وعوائلهم.
في هذه البيوت الحديثية كانت تقام الأعراس وتقام المآتم وتمد المآدب ويشارك الجميع فيها، في ساحاتها وبين أزقتها، أذكر وأنا صغير ألهو مع اللاهين في (زفّة) أحد العرسان ولم يكن ابن عم لي ولا ابن خال ولكنه حديثي وحسب، انبرى المرحوم) بيرم عبد القادر العيفان) بعد أن حمل على الأكتاف وكان شاباً ليرتجز شعراً لم أعد أذكره لكني أذكر (ربطاته) أي هوساته، (مرغوبة يا أم دگ الناعم) و(معروفة يخدود التصبغ (وهوسات أخرى ما عدت اذكرها، وكنا جميعاً (نهوّس) بها ولا نفهم لصغر أعمارنا معانيها أو ما ورائها، وإن كان الشاعر أو (المهوال) كما يسميه أهلنا في الجنوب يعرف ما يقول ويعني، ومما علق بذاكرتي غير هذه الهوسات هوسات أخرى في (زفة) عريس ثان (وشجابك عا لصل تدوسه) وتحمس مجموعة من الشباب لهذه الهوسة التي كانت على ما فهمناه فيما بعد تغمز من مجموعة محتفلة ضمن المحتفلين، فما كان من أحدهم إلا أن صاح :ها ها ها ، ثم هوّس: (واندوسه وهم نسحگ راسه) وكنت والكثير من الأطفال نردد الهوستين ولا نعي شيئا إذ أن هذا الخلاف الشكلي انتهى عند بيت العريس حيث زفّت العروس على مائدة واحدة اجتمع عليها الفريقان، وتفرقوا معاً محملين بالأنس والفرح والطيب وكأنهم ليسوا هم الذين كادوا أن يشتبكوا عراكاً بالأيدي قبل ساعات، ولا سلاح سوى الأيدي في أشد الخصومات ولا غرابة في ذلك فهم أبناء عمومة كما تقول (هوستهم) التي تتردد في جميع الأعراس دون استثناء (جبناهه وجينا يا ابن العم)، هذه هي الذكريات الأولى لي عن الهوسة في حديثة وأن سبقت بهوسة أخرى أذكرها كالحلم، وكنت حينها دون السادسة من العمر، لا أدري ما هي مناسبة اجتماع الناس في الساحة التي يطل عليها بيتنا ولكنها بالتأكيد اجتماع فرح خرج من بين صفوفه رجل بيشماغه وعقاله وتكلم عن أبي سرحان والعظم واللحم والشبع والجوع ثم هتف: ها ها ها (سنتين نظل ناكل بيها) وضحك الجميع عاليا وهوّسوا معه فرحين بتلك الهوسة التي لم أجد من المعاصرين من يحفظ الأبيات المتقدمة على الهوسة (الرباط) ولم تحتفظ ذاكرتي بسوى تلك الكلمات وجو البهجة الطاغي على الجميع حينها، ولم أفهم لم كان المحتفلون يضحكون! أعلى النص الشعري أم على الشاعر؟ ولا يهمني أن أدري فكل ما يهمني عن أهلي الحديثيين أنهم كانوا بالصورة التي أسلفت، وليتهم يعودون إلى ما كانوا عليه، تلك هي الأجواء التي كانت عليها حديثة وفيها وبها تربينا وكبرنا وأحببنا حديثة وهوسات حديثة وشعرائها وأهلها دون استثناء.
لقد ظهر في حديثة شعراء للهوسة كثيرون، أذكر منهم وأن لم أحصل على شيء من نتاجهم إذ لم يحتفظ أبناءهم بنص شعري لهم لكني أتذكر بعضهم وكأني أراهم الآن رأي العيان أمامي (محمد جميل، إسماعيل الوهيب، قدوري العيفان، زعل طه، رزيك محمد العبيد) وآخرون لم أدرك شيئاً لهم إلا القليل لكني أدركت أبناءهم ولم يكونوا مثلهم، باستثناء ابن أحدهم المرحوم (بيرم عبد القادر العيفان) وهذا شاعر وابن شاعر ممن يذكر حين يعد الرجال .أما الآخرون فحصلت على أشياء قليلة لهم عن طريق أبنائهم، فعن المرحوم (زعل طه عاشور)، حدثني كل من سألته عن طرائفه وهوساته الكثيرة غير أن كل من حدثني لم يذكر لي شيئاً من نتاجه سوى هوستين حصلت على أحداهما من المحامي الأستاذ ياسين عبد الكريم رحمه الله، وأعطاني الثانية ابن الشاعر البكر وهي تنم عن قابلية شعرية كبيرة وأن كان ما حصلت عليه سياسياً إذ كان الشاعر على ما يبدو من المحبين للزعيم عبد الكريم قاسم زعيم العراق بعد ثورة (14 تموز1958) ومن المعجبين به وبثورته لذلك له في مدحه في عام 1958:
كريـــم انـت الزعيــم وســـور للأوطـــان
والطاغـي نگص عظمـه برصاص ودان
مــــن دگة الرميثـــه تشـــــهد الگيـــعان
) اليتجاوز حدنه نگص ايده)
أنه شاعر حديثي من الغربية في الأنبار يفاخر بأهله في الرميثة في الديوانية أبطال ثورة العشرين، فهل يعي ذلك من يتحدث الآن بالطائفية ويتطلع إلى تقسيم العراق شمالاً وجنوباً؟ يخسأ من يفكر في ذلك، وستقطع يده ويد من يتجاوز حدود عراقنا أياً كان ومن يكون إن لم يكن اليوم فغدا، إذ أن العراق عند أهله لا يقبل القسمة، أنه واحد وسيظل واحداً عصياً على التقسيم والتقسيميين، وللشاعر في نفس الزعيم وبعد مرور سنة على الثورة أي في عام 1959 م وفي تظاهرة احتفالية وقف) زعل طه) هاتفاً:
الرياسة بس الى عبد الكريم تلوگ
وغيـره للشعب ما يحـصل حگوگ
نوري چــان سنبل بعد مو مدگوگ
(كريم الدگه واحنه الذريناه)
وربطة أخرى لنفس المقدمة الشعرية: (سنبل بعده مو مدگوگ كريم دگه).
ولم أجد لهذا الشاعر غيرهما لكني وجدت لصنوّه المرحوم (عبد الرزاق محمد العبيد) نصوصاً أكثر احتفظ بها ولده السيد أركان الذي أفادني أن والده الذي ولد في 1907 م وتوفي 1997 م انتمى إلى حزب قومي واشتغل عاملاً في محطة ك- 3 لضخ النفط التابعة لشركة نفط العراق في حديثة، ثم طرد من الوظيفة في 1947 م لمشاركته في (أضراب شنور)( ) في العهد الملكي، ثم أعيد إلى العمل بموجب قرار عودة المفصولين الذي صدر بعد ثورة 14 تموز 1958م، وهو شاعر سياسي اشتهرت له هوسات منها (ترسوله الجنطة وهز ذيله)( ) والتي قالها معرضاً بمتصرف لواء الرمادي حينها سنة1947م لثبوت رشوته وتغيير موقفه الذي كان عليه في مناصرة المتظاهرين والمضربين عن العمل، وشاعرنا هذا غمرته السياسة فلم ينشد إلا لها، ولعل لعمله في مجال النفط واحتكاكه بالعمال من فئات مختلفة علاقة بذلك، فهو يشارك في إضراب شنور سنة 1946 م ويبايع الشيخ (فتيخان أبو ريشة) المتمرد على الوضع السياسي بعد موقعة (سن الذبان)( ) سنة1941م وخسارة الجيش العراقي أمام القوة العظمى (بريطانيا) وجيشها فيهوّس:
أصيـــح وأومـــي وبالـقدس ننخــان
واطلب برد الشام من عــالي الشان
واطالب بجيش العرب والقايد فتيخان (يرجيها كل ما تتمايل)
وينتفض مع العراقيين مزهواً بجيشه الذي ذهب إلى فلسطين لنجدتها عام 1948 م فيباهى بحكومة العراق وملكها فيصل الثاني:
فيصل گــمر والشعـب كلـه نجـوم
وخاله الوصي مثل الأسـد ويحـوم
من فلسطين العزيزة للعراق اليوم
(بچفوفة دگ اعلان العز)
وحين يتغير نظام الحكم في العراق وتقوم الجمهورية مقام الملكية عام 1958م يبتهج بقانون الإصلاح لزراعي الذي شرعته الجمهورية الجديدة بعد الثورة، وضربت به على يد الأقطاعيين فهوّس شامتاً مع المهوسين-: (كل عشر شيوخ بگونيه( ويظل على هذا النهج في هوساته وأهازيجه حتى إذا أمم النفط سنة1973 م رأى أن حلماً كبيراً قد تحقق لأهل العراق فهتف أمام المتظاهرين لما أعلن التآميم:
يجري النـفط وبسبــــــة الاحرار
رغم كل عميل وخادم للاستعمـار
وصوت أبو هيثم بلندن أشعل نار
(ونزيده هالنـــــــار الشــــبت)
وهوسات (نفطية) أخرى كثيرة حصلنـــــــا منهــــا على :(كل المكاين صــيّحت.. التورباين عربي) و (انگص ايد اللي يگص البايب) رداً على تهديد الشركـــــات المؤممة ومن ورائها بإفشال قانون التأميم، وكل ما حصلت عليه من شعر الشاعر يدور في هذا المضمار وذات الموضوع السياسي حاله حال من سبقه من شعراء الهوسة الذين لم أحصل إلا على جذاذات من شعرهم، أمثـــال المرحوم (عبد القادر عيفان المولى) الذي استقبل رئيس الوزراء العراقي) طاهر يحيى (عــــام 1963 م في حديثة بهوسته الشهيرة بعد أن هدد طاهر يحيى الحديثيين أو المسيئين منهم بتقليم أظافرهم راداً عليه:
إحنه أهل المعاني والشرف والدين
وجثير إلنه عليكم طلبــــــات ودين
أظن سفـــك الدماء يسيـــل واديين
(يتنحى اليعرف ماضينا)
ومن هوسات الحديثيين ونحن نستعرض شعراء الهوسة فيها نذكر حادثة استقبال الأهــالي في حديثة لـ(صبحي عبد الحميد (وزير الداخلية عـــام 1964م مطالبين الزائر لمدينتهم بتحويلهــا إلى مركز قضاء، وفتح دائرة للتجنيد فيها وتوزيع أراضي سكنية لأهلهـا بثمن رمزي، وأمـــور أخرى أجملها المرحوم (فوزي راشد آل جعفر) بهوسته الشهيرة: (بيعونه المتر بدرهم.. خلصونه من روحة عانه) وكانت معظم الدوائر الرئيسية في عانه مركز القضاء الذي تتبع له ناحية حديثة إدارياً آنذاك .وقد تحقق المطلب وتخلص الحديثيون من السفر إلى قضاء (عانه) في كل شاردة وواردة بعد أن غدت حديثة قضاءأً مستقلاً عنها. وقبل هذا التاريخ وفي الثلاثينيات من القرن الماضي هوّس المرحوم "علي الحميد الداود آل جعفر" (عدلتك يا ميل حدودي) بعد إزالته لتجاوز حصل على أملاكه في قرية (صريافه) من قبل شركائه من الجغايفة آنذاك، ومن الهوسـات الطريفة ما رواه لـي المرحوم نزيه نايف الخنور، وهو من المهتمين بالأدب الشعبي عن الهوسة التي أطلقها المرحوم (أحمد المگيطف) الباقي في مكة المكرمة في موسم الحج وكان الحجاج قد لجّو بالدعاء، ولم يكن الشاعر مـمن يحفـظ الأدعية ويتقنها، فهتف حينها مخاطبـاً الله جـلّ وعلا (تغفر تغفر لا بد تغفر .. وإن مـا تغفر جنتـك تصفر) أي لابد لك يا ربنــا من مغفرة ذنوبنــا وإلا فستظل جنتك فارغة تصفر فيها الريح ولن يدخلها أحد، وهي مأخوذة من مقولة مشابهة لبدوي من اليمن حج إلى بيت الله الحرام، وكان يجهل ما يردده الحجاج في الدعاء وأثناء الطواف فردد هذا القول في معنى مشابه وصياغة نثرية لاحظّ للشعر فيها، كالذي صاغه حميد المكيطف في هوسته. وقبل الختام لا بد من الأشارة إلى تراث الشيخ الشهيد بيرم عبد القادر- الذي غدر به الإرهاب في 6/ 3/ 2007م- من الهوسات التي تأخذ معظمها الطابع السياسي، وتربو على ثلاثين نصا ألقى واحدة منها في عمان- الأردن معقبا على شكوى باح بها الملك حسين أمام جمع من ضيوفه، وكان شاعرنا الشهيد واحد منهم فما كان منه إلا ان رفع كفه مهوسا:
إحنه حزامك يزيزوم السبايا وبينه تتحزم
إنـدوس إعلـه المنايا عمد عالمـوت نتقدم
بــس صيــح لصيحتـك كلها الــزلـم تلتـم
(إحنه الصنعنه العابد واسرائيل احتارت بيه)
وفي موقف آخر مرحبا بالجيش العراقي الذي دخل حديثة متوجها إلى الحدود السورية بعد أحداث لبنان في سبعينات القرن الماضي هتف مهوساً:
هله بجيـش الشعب حيّاه من گام وزحف روجه
هله وهاي (الحديثه) وياك كلها خيول مسروجه
يلــو بـس النســا تبقــى لــزوم نعـدّل العــوجـه
(العوجه انصد الها انعدلها)
وفي الختام أقول هذا ما وصلت إليه بعد بحث ومتابعة في مجال الهوسة الحديثية على وجه الخصوص أدوّنها هنا للتوثيق والتذكير عساها توقظ النائمين عن حقوقهم من أهل العراق.
ملاحظة:
يبدو أن (ربطات) معظم الهوسات متكررة ومتشابهة لدى شعراء الهوسة في كل مدن العراق، إذ ترد (الربطة) ذاتها لدى شعراء مختلفين، كما وجدت أن معظم الهوسات متشابهة، وتكاد تكون نصّية غير أن مقدمة الهوسة تختلف من شاعر لشاعر.
الهوامش: