عن الأزياء وأسلوب العيش والسلوك في مدينة الرمادي القديمة سردية ثقافية


د. فؤاد مطلب
أستاذ النقد الأدبي الحديث والأدب المقارن في جامعة الأنبار

قيل إنها ولدت من رماد الحكايات ولذلك أخذت اسمها من الرماد الذي كان يخلفه المسافرون على تلك التلة التي تتوسط الطريق الطويل بين بغداد والشام، وقيل إن ولياً صالحاً باركها صبيحة يوم مبارك وقرر أن يتخذ منها مأوى ومصلى، فكان أن حملت المدينة اسم ذلك الولي الرمادي الذي قيل إن أصله من المغرب العربي. وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك بكثير فزعم أن هذه البقعة المحصورة بين الكطانة والعزيزية هي موطن لحضارات قديمة تعود لآلاف السنين كما أفاد بذلك الأستاذ حسين جمو صاحب كتاب الأنبار من حروب المراعي إلى طريق الحرير، ولذلك فإن هوية هذه المدينة تظهر في مجموعة من المظاهر الثقافية والفلكلورية التي تتركز بشكل كبير في الأزياء التي يرتديها أهل الرمادي، وفي مجموعة من السلوكيات التي ظل أبناء هذه المدينة يتوارثونها جزءًا من ثقافة وتاريخ يمتزجان بشخصية محبة للخير والعطاء.
العمامة/ العقال
تبرز ثنائية العمامة والعقال في بنية مجتمع الرمادي تاريخيا على أنها واحدة من الثنائيات التي يمكن النظر إلى المجتمع من خلالها، ويمكن تصنيف العمامة على أنها عمامة حضرية وافدة تشير من ضمن ما تشير إليه إلى المهنة الدينية لمعتمرها في الأغلب الأعم- أقول في الأغلب الأعم، لأني أذكر أن مطهر الأولاد قديما في الرمادي- وهذا موضوع آخر مستقل يمكن أن نورد له دراسة خاصة به- كان يعتمر طربوشا أحمر ويلف عليه العمامة أذكر كان لقبه العباسي- وكان غالبا ما يتخذ له مكانا في مقهى العروبة في ساحة المصطر سابقا ولديه دراجة هوائية كتب عليها اسمه ومهنته، ورجوعاً إلى العمامة ورمزها الديني، فيمكن أن أقول إن أهل الأنبار يحبون ويوقرون العمامة تاريخياً إذ أنقل من مشاهداتي كيف كان جدي وأبي وعموم أصحاب المحال التجارية على الشارع العام يقفون باحترام ليردوا السلام على عالم الدين الذي يمشي بكل هدوء وروية وهيبة. لقد حدثني من يكبرني سناً عن هيبة شيخ عبد الجليل رحمه الله وشاهدت هيبة الشيخ عبد الملك السعدي أطال الله بعمره، كما وقفت طويلاً أمام سلوك أهل القطانة والعزيزية الذي يتسم بالحب والاحترام والتوقير للشيخ عبد العليم السعدي والشيخ يحيى الناصر رحمهما الله تعالى، إذا كان أصحاب المحال التجارية الموجودة في محلة العزيزية والكطانة- أقدم محلات مدينة الرمادي- يقفون باحترام ليسلموا على الشيخ عبد الملك السعدي أو الشيخ صبحي الهيتي رحمه الله، حين كان يخطر بجبته وعمامته من أمام المحال التجارية ليؤم المصلين في الجامع الكبير أو جامع الشيخ عبد الجليل. لقد كان الناس في الرمادي- ولا يزالون- يحترمون العمامة ويسمونها عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على الجانب الآخر من الثنائية يبرز العقال العربي الذي يوضع على الرؤوس فمنه ما يكون بذيل ينتهي بشراشيب، وفي هذا دلالة اجتماعية على طبقة من يرتديه حيث كان يعتمر أغلب الرجال في مدينة الرمادي عقالا بشراشيب طويلة تتدلى إلى أسفل الظهر مع دشداشة أم الوربة وهي نوع من الأثواب الرجالية يفتح في جنبتيه فتحتان لتسهيل المشي على مرتديها من جهة، ولبيان فتوة الرجل من جهة أخرى، لأنها تظهر جانباً من سيقان الرجال، إضافة إلى الجاكيت الذي يفضل أهل الرمادي أيام زمان ارتدائه فوق الدشداشة. على الجانب التاريخي أستطيع القول إن كل رجال أهل الرمادي كانوا يعتمرون العقال، ولا فرق هنا بين القادم من الجزيرة أو القاطن في محلات المدينة العتيقة، وهنا قد يتبادر إلى الذهن سؤال حول إمكانية التضارب في المعلومة بين حضرية العمامة و(حضرية) العقال أيضاً ما دام كل رجال أهل الولاية كانوا يرتدون العقال، وأقول إن العمامة حضرية لأنه لا يرتديها ابن الريف، كما أن العمامة جاءت إلى المجتمع الأنباري وافدة إليه من بيئات وحواضر علمية.
ولا يزال بيت السعدي الكرام يخبرون في حواراتهم الخاصة وعلى المنابر أيضا أن الشيخ عبد العزيز البدري السامرائي رحمه الله هو من كان له الفضل في الدعوة إلى الله، وانشاء حلقات التعليم الديني في عموم مساجد المحافظة، وبقي الأمر على هذا الحال في الرمادي أيام زمان إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي الذي شهد مكوناً أزيائياً جديداً على بنية المجتمع الأنباري ألا وهو القاط، وهو عبارة عن جاكيت وبنطلون ورباط وأحيانا سدارة، ومن يرتديه يسمى الأفندي تمييزا له وللطبقة التي ينتمي إليها، إذ كان من يرتدي القاط لا بد أن يكون معلما في المدرسة الحكومية التي أنشئت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحت مسمى مدرسة الرسول العربي الابتدائية ومن بعدها ثانوية الرمادي التي درَّس فيها كثير من أعلام العراق أمثال الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي كان يسكن في القسم الداخلي الكائن بالقرب من السوق القديم أو السوق "المغمي" كما يحب أن يسميه بعض أهل الولاية، وكان أن كتب الشاعر السياب قصيدته المشهورة "السوق القديم" مستوحياً فيها أجواء هذا السوق وهمهمات العابرين كما يقول السياب الخالد، ومن الأعلام الآخرين الذين درسوا في اعدادية الرمادي كان الكاتب والمفكر العراقي البارز الأستاذ حسن العلوي الذي لا تزال غرفته التي كان يسكن فيها شاخصة إلى الآن كما أخبرني الاستاذ المؤرخ مجيد الآلوسي، كما درس في إعدادية الرمادي كثيرون أمثال الأستاذ المرحوم كامل الدباغ الذي عرفه العراقيون لاحقاً معداً ومقدماً لبرنامج (العلم للجميع) ذائع الصيت. إن مدينة الرمادي التي مصرها الوالي العثماني مدحت باشا سنة ١٨٦٨ هي مدينة حديثة من حيث التمصير والتأسيس القانوني غير أن البدايات تشير إلى أنها أقدم بكثير من هذا التأريخ الرسمي المسجل، فلقد كانت الرمادي قديماً تعرف باسم تلة الرماد نسبة إلى الرماد الكثير الذي كان يتراكم عبر السنين من جراء المواقد التي يعدها المسافرون إلى الشام متخذين من تلة الرماد محطة استراحة لهم ليلتقطوا فيها أنفاسها من عناء السفر وليأكلوا ويتسامروا فوق هذه التلة إلى حين انقضاء ليل المسامرات ليستأنفوا بعدها طريق رحلتهم من وإلى الشام، كل هذه الممارسات جعلت تلة الرماد منطقة مأهولة بالتجمعات السكانية شيئاً فشيئاً إلى أن جاءت لحظة التمصير المعروفة.
حمام الرمادي
في الرمادي القديمة كان هناك حمام عام في منطقة العزيزية يرتاده الرجال، وهو مفتوح طوال أيام السنة ولكن الإقبال عليه يكون أكثر في أيام الشتاء الباردة، وفي مواسم العيدين المباركين أو حينما يقرر أحدهم الزواج، ولهذا الموضوع طقوس خاصة حيث يأتي العريس ومعه مجموعة من الأصدقاء والأحباب ليشاركوا في حفلة الاستحمام هذه مع ما يرافقها من أغانٍ فولكلورية وقفشات ومواقف مضحكة، يبقى العريس وأصحابه يتذكرونها بعد العرس بسنين كثيرة كلما اجتمعوا في مناسبة ما لينقشع غبار التذكر عن ذكريات تجلب معها نكهة الزمن الجميل والمناسبات السعيدة.
ولكن هل كان حمام السوق للرجال فقط؟ لقد كانت هناك أيام معروفة يكون الحمام فيها مخصوصاً بالنساء فقط إذ تتغير إدارة الحمام في هذه الأيام إلى إدارة نسائية لتتناسب مع حشمة النساء اللواتي لم يكن يجدن في الذهاب إلى حمام السوق أي ريبة أو شك ما دام الحمام مخصوصاً بهن في أيام محددة، وبعد أن تستحم النساء يخرجن من الحمام ليتناولن مشروب النومي بصرة أو مشروب الدارسين ومعه أكلة الكليجة الحاضرة بقوة في مثل هذه المناسبات.
الأهازيج في الرمادي
في الرمادي– وفي بقية أقضية الأنبار الأخرى– تتنوع الأهازيج بحسب المناسبة فإذا كانت المناسبة هي حفلة ختان أحدهم فإن أهل البيت وأقاربهم يتجمعون وينشدون وهم يحملون شرشفاً ما أو بطانية ما من الأطراف والطفل تحتها لينشدوا قائلين: صلوا على محمد هذا طهور محمد، وحينما يريد الشباب مناكفة الصبي المختون ينشدون ضاحكين :"من شاف الدم اصفر لونه"، أما عن أهازيج الأعراس فما أكثرها وتبدأ قبل يوم العرس بثلاث ليال إذ يتجمع أصدقاء وأحباب العريس في ديوانية صاحب العرس لينشدوا ويغنوا أغاني شعبية من محفوظاتهم، وحينما تأتي ليلة الحنة فإنها تكون ليلة مشهورة وكبيرة مثل ليلة العرس تماماً إذ ينتصب بيت الشعر "الخيمة" في الشارع أو الزقاق وتبدأ ليلة الحنة من بعد العشاء إلى منتصف الليل مصحوبة بالغناء والدبكات والجوبي على وقع الطبل والمزمار حيث يغني المغني وإلى جواره صاحب المطبك "سن الذهب لايك له عل البرطم الرفيعي" أو "يومن نزل عل محكمة تلمع نياشينه مثل الوبا عل خلق لو دحج بعينه" وكثير من الأغاني والعتابات والسويحليات التي قد يتخللها قيام بعض الشباب بإطلاق عقلهم "جمع عقال" في الهواء تعبيراً عن الفرح والسرور، وحين تجي فترة العصر ما قبل الدخلة ترى أصدقاء وأصحاب العريس يلفون بالعريس بين الجموع، وينشدون أهازيج خاصة بليلة الدخلة يبلغ أوارها مبلغه بعد أن يتعشى الناس إذ تبدأ الأهازيج بقول الشباب: "هاي الصيدة يطوير الحر" ليبلغ صوتهم إلى داخل البيت ولتتهيأ النساء بتجهيز الغرفة لالتقاء العريسين فيها.
سوق الجمعة
ساحة المسطر هي ساحة تجمع بين مجموعة من المحلات والمخازن والمقاهي المتحلقة حول باحة واسعة بعض الشيء تشكل فضاء مناسبا أمام الجامع الكبير، وهو أقدم جامع في مدينة الرمادي يعود تاريخ بنائه إلى السنة نفسها التي تم فيها تمصير المدينة على يد الوالي مدحت باشا، أقول إن ساحة المسطر هي ساحة عادية يمارس فيها أهل المحلات عادتهم اليومية في بيع الأغراض والسلع التي تميل إلى كونها سلعاً قديمة أو تراثية مثل محل صناعة العبي الرجالية وصناعة العقال، علاوة على محلات بيع التتن العديدة التي كانت تحد الجامع الكبير من جهته الشرقية، ساحة المسطر هذه تظل ساحة عادية طيلة أيام الأسبوع حتى يأتي يوم الجمعة لتنقلب ساحة المسطر إلى كرنفال عجائبي يجتمع فيه الناس من كل حدب وصوب فمن بائع للسبح والمحابس والأحجار والخرز الكريمة، إلى بائع يصيح على ما في خرجه من بيض العرب، وعلى مقربة منهم يتخذ بائعو الطيور مقعدا مميزا فهم أصحاب سلعة مميزة يجتمع عليهم من أجل شرائها الكثيرون، ولكن يبقى العدد الأكبر لأولئك الذين يأسرهم المنظر وتستهويهم الفرجة المدهشة، إن ساحة المسطر هي بحق كرنفال أسبوعي يجتمع فيه ويتحلق حوله أبناء الرمادي قبل الذهاب إلى تأدية صلاة الجمعة في الجامع الكبير الذي ينتصب بمنارته الشاهقة وقبته الخضراء على مقربة جدا من ساحة المسطر، ولك أن تتخيل اجتماع ثقافتين دينية ودنيوية في مساحة ضيقة لا تتعدى قطرها الكيلو متر الواحد، وقد احتشدت بخطابين لا يجتمعان زمانيا ومكانيا إلا في مثل هذا اليوم من الأسبوع وإلا في هذا المكان بالتحديد، فأنت تسمع داعي الله عبر مكبرات الصوت الذي يدعوا المصلين إلى المسجد وفي الوقت نفسه تسمع بائعي المسطر كل ينادي على بضاعته وسلعته و"محتواه" إن صح التعبير.
كل هذا وأكثر هو ما كانت تدخره الرمادي القديمة من ممارسات وعادات وتقاليد تحولت مع مرور الأيام إلى فولكلور بحاجة شديدة إلى الاهتمام به وحفظه قبل أن تطاله وعثاء النسيان.

  • المعرض الدائم في بابل / كلية الفنون الجميلة في بابل
  • المعرض الدائم في واسط / جامعة واسط
  • المعرض الدائم في كربلاء / البيت الثقافي في كربلاء
  • المعرض الدائم في البصرة / البيت الثقافي في البصرة
  • المعرض الدائم في تكريت / جامعة تكريت
  • المعرض الدائم في الفلوجة / البيت الثقافي في الفلوجة
  • المعرض الدار الدائم في الديوانية
  • المعرض الدار الدائم في ذي قار

 

social media 1    social media    youtube    pngtree white linkedin icon png png image 3562068


logo white